الاثنين، 1 يوليو 2013

التطهير العرقي في فلسطين

تلخيص كتاب : التطهير العرقي في فلسطين تأليف: إيلان بابيه
مقدمة
في 10 آذار / مارس 1948 ، وضعت مجموعة من أحد عشر رجلاً، مكونة من قادة صهيونيين قدامى وضابطين عسكريين شابين، اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقياً، وفي مساء اليوم نفسه، أرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين في مناطق واسعة في البلد، وأرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لطرد الناس بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق، محاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية، حرق منازل وأملاك وبضائع، طرد، هدم (بيوت، منشآت)، وأخيراً، زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم، وتم تزويد كل وحدة بقائمة تتضمن أسماء القرى والأحياء المحددة كأهداف لها في الخطة الكبرى المرسومة، وكانت هذه الخطة، التي كان اسمها الرمزي الخطة دالت هي النسخة الرابعة والنهائية من خطط أقل جذرية وتفصيلاً عكست المصير الذي كان الصهيونيون يعدونه لفلسطين، وبالتالي لسكانها الأصليين .
وبحسب تعبير "سمحا فلابان"، من أوائل المؤرخين الذين أشاروا إلى أهمية هذه الخطة ومغزاها، فإن "الحملة العسكرية ضد العرب، بما في ذلك غزو المناطق الريفية وتدميرها، رسمت معالمها في خطة دالت التي أعدتها الهاغاناه ، وكان هدف الخطة، في الواقع تدمير المناطق الفلسطينية الريفية والحضرية على السواء.
ان هذه الخطة، كانت النتيجة الحتمية للنزعة الأيدلوجية الصهيونية التي تطلعت الى ان تكون فلسطين لليهود حصراً، واتت الاشتباكات المسلحة مع الميليشيات الفلسطينية المحلية لتوفر السياق والذريعة المثاليين من أجل تجسيد الرؤية الأيدلوجية التي تطلعت الى فلسطين نقية عرقياً، وكانت السياسة الصهيونية في البداية قائمة على ردات فعل انتقامية على الهجمات الفلسطينية في شباط/ فبراير 1948، لكنها ما لبثت ان تحولت في آذار/ مارس 1948 الى مبادرة لتطهير عرقي للبلد بأكمله.
بعد ان اتخذ القرار، استغرق تنفيذ المهمة ستة أشهر، ومع اكتمال التنفيذ، كانوا أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين، أي ما يقارب 800.000 نسمة، قد اقتلعوا من أماكن عيشهم، و531 قرية دمرت، و11 حياً مدنياً أخلي من سكانه.
ان هذا الحدث المصيري، الأكثر أهمية في تاريخ فلسطين الحديث، جرى إنكاره بصورة منهجية منذ وقوعه، ولا يزال حتى الآن غير معترف به كحقيقة تاريخية، ناهيك عن الاعتراف به كجريمة يجب مواجهتها سياسياً وأخلاقياً.
لقد تحدثت القصة الإسرائيلية التاريخية التي جرى تلفيقها عن "انتقال طوعي" جماعي أقدم عليه مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين قرروا ان يهجروا بيوتهم وقراهم مؤقتاً من أجل ان يفسحوا الطريق امام الجيوش العربية الآتية لتدمير الدولة اليهودية الوليدة- غير ان المؤرخين الفلسطينيين، وفي طليعتهم وليد الخالدي، استطاعوا في السبعينات من القرن الماضي، من خلال جمع مذكرات ووثائق أصلية تتعلق بما جرى لشعبهم، ان يستعيدوا جزءاً كبيراً من الصورة التي حاولت إسرائيل محوها لكن سرعان ما عتم على الحقائق المستعادة .

تطهير عرقي مزعوم
يعتقد كاتب هذه السطور أن التطهير العرقي هو سياسة محددة جيداً لدى مجموعة معينة من الأشخاص تهدف إلى إزالة منهجية لمجموعة أخرى على أرض معينة، على أساس ديني، أو عرقي، أو قومي وتتضمن هذه السياسة العنف، وغالباً ما تكون مرتبطة بعمليات عسكرية، ويتم تنفيذها بكل الوسائل الممكنة، من التمييز إلى الإبادة، وتنطوي على انتهاك لحقوق الإنسان والقانون الدولي وتشكل أساليب التطهير العرقي، في معظمها، انتهاكاً صارخاً لاتفاقيات جنيف لسنة 1949، وللبروتوكولات الإضافية لسنة1977.
أصبح التطهير العرقي حالياً مفهوماً معرفاً جيداً صار الآن يعرف انه جريمة ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي.
تعرف موسوعة "هاتشينسون" التطهير العرقي بأنه طرد بالقوة من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة، وهدف الطرد هو ترحيل أكبر عدد ممكن من السكان، بكل الوسائل المتاحة لمرتكب الترحيل لقد وضع هذا الكتاب بقناعة راسخة بأن التطهير العرقي الذي حدث في فلسطين يجب أن يتجذر في ذاكرتنا ووعينا بصفته جريمة ضد الإنسانية، ويجب أن يستثني من قائمة الجرائم "المزعومة" أن مرتكبيه هنا ليسوا مجهولين – أنهم مجموعة محددة من الأشخاص: أبطال حرب الاستقلال اليهودية، ، والقائمة تبدأ بزعيم الحركة الصهيونية ، دافيد بن – غوريون، الذي نوقشت في منزله الخاص وحبكت نهائياً الفصول الأولى والأخيرة في قصة التطهير العرقي.
وضع هؤلاء خطط التطهير العرقي وأشرفوا على تنفيذها إلى أن تم اقتلاع نصف السكان الأصليين من وطنهم وساعد هؤلاء الضباط والخبراء قادة مناطق، مثل موشيه كالمان، الذي طهر منطقة صفد، وموشيه كرمل، الذي اقتلع معظم سكان الجليل، ونشط يتسحاق رابين في كل من اللد والرملة، وفي منطقة القدس الكبرى، هناك شمعون أفيدان، الذي طهر الجنوب، والذي قال عنه، بعد أعوام، زميله رحبعام زئيفي، الذي حارب معه، "شمعون أفيدان، قائد لواء غفعاتي، طهر جبهته من عشرات المدن والقرى، وساعده في ذلك يتسحاق بونداك، الذي أخبر صحيفة "هآرتس" في سنة 2004: "كان هناك مئتا قرية (في الجبهة) وجميعها أزيلت من الوجود، كان لا بد من تدميرها، وإلا لكان بقي لدينا هنا عرب مثلما هي الحال في الجليل، ولكان بقي لدينا مليون فلسطيني آخر ثم كان هناك ضباط الاستخبارات الميدانيون، وهؤلاء لم يكتفوا بجمع المعلومات عن "العدو"، وبالقيام بدور رئيسي في التطهير، بل أيضاً شاركوا في بعض أسوأ الأعمال الوحشية التي رافقت الطرد المنهجي للفلسطينيين، وكانوا مخولين سلطة اتخاذ القرار النهائي بشأن أي القرى يجب تدميرها، وأي أشخاص من القرويين يجب إعدامهم.

استحضار وقائع التطهير العرقي:
العرقي الاستعماري في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وفي إفريقيا واستراليا، حيث ارتكب المستوطنون البيض جرائم كهذه بشكل روتيني.
وعلى الرغم من ذلك فانه لا يمكن إنكار أن التطهير العرقي الذي جرى في سنة 1948 تم اقتلاعه تقريباً من الذاكرة العالمية الجماعية، ومحوه من ضمير العالم..

نحو دولة يهودية حصراً
ترفض الأمم المتحدة بشدة أية سياسات أو أيدلوجيات تهدف إلى التشجيع على التطهير العرقي بأي شكل من الأشكال القرار 47/80،16 كانون الأول / ديسمبر 1992.
لقد وجه المستوطنون الصهيونيون الأوائل معظم طاقتهم ومواردهم لشراء قطع من الأرض في محاولة لدخول سوق العمل المحلية وإيجاد شبكات جماعية وطائفية قادرة على إسناد مجموعات القادمين الجدد التي كانت لا تزال صغيرة وهشة اقتصادياً،  وبارتباط وثيق بالأفكار البريطانية بشأن الوسيلة الأفضل لحل النزاع الذي فعلت بريطانيا الكثير لمفاقمته حتى سنة 1928، تعاملت الحكومة البريطانية مع فلسطين كأنها دولة واقعة ضمن نطاق النفوذ البريطاني، وليست مستعمرة، دولة يمكن أن يتحقق فيها، برعاية بريطانية، الوعد المعطى لليهود وطموحات الفلسطينيين سواء بسواء، وقد حاول البريطانيون إنشاء بنية سياسية يتمثل فيها الطرفان على قدم المساواة في برلمان الدولة وفي الحكومة، لكن عملياً، عندما قدم العرض اتضح انه أقل إنصافاً مما يجب، إذ كان فيه تمييز لمصلحة المستعمرات الصهيونية وضد الأغلبية الفلسطينية.
وبعد ثلاثة أعوام، تخللتها هجمات وحشية وعديمة الرحمة على الريف الفلسطيني، نجحت القوات البريطانية في إخماد الثورة، ونفيت القيادات الفلسطينية، وحلت الوحدات شبه النظامية التي أدارت حرب عصابات ضد قوات الانتداب، وفي غضون ذلك اعتقل وقتل وجرح عدد كبير من القرويين الذين شاركوا في الثورة، وقد سهّل غياب معظم القادة الفلسطينيين، وحل الوحدات المقاتلة الفلسطينية، على القوات اليهودية في سنة 1947 اجتياح المناطق الريفية الفلسطينية من دون أية صعوبة وفيما بين الثورتين، لم يهدر القادة الصهيونيون الوقت لوضع الخطط من أجل تحويل فلسطين إلى بلد يقطن فيه اليهود حصر
أولاً: في سنة 1937، بقبولهم بجزء متواضع من البلد عندما رحبوا بتوصية لجنة بيل الملكية البريطانية بتقسيم فلسطين إلى دولتين ثانياً: في سنة 1942، بتجريب استراتيجيا أكثر طموحاً، مطالبين بفلسطين كلها ولربما تغيرت المساحة الجغرافية التي وضعوها نصب أعينهم تبعاً للوقت والأوضاع والفرص، لكن الهدف الرئيسي بقي كما هو، فالمشروع الصهيوني ما كان ليتحقق إلا بإقامة دولة يهودية محضة في فلسطين، لتكون ملجأ آمناً لليهود من الاضطهاد، ومهداً للقومية اليهودية الجديدة، ومثل هذه الدولة كان لا بد من أن تكون يهودية حصراً.
التحضيرات العسكرية
منذ البداية، سمحت السلطات الانتدابية البريطانية للحركة الصهيونية بإنشاء كيان مستقل لها في فلسطين ليكون بمثابة بنية تحتية للدولة العتيدة، وفي أواخر الثلاثينات من القرن الماضي تمكن قادة الحركة من ترجمة رؤيتهم المجردة، المتعلقة بجعل فلسطين مقصورة على اليهود، إلى خطط ملموسة.
وقد اشتملت التحضيرات الصهيونية للتمكن من الاستيلاء على البلد بالقوة، في حال عدم الحصول عليه عن طريق المساعي الدبلوماسية، على إنشاء منظمة عسكرية فعالة -  بمساعدة ضباط بريطانيين متعاطفين – وعلى البحث عن موارد مالية وفيرة (كان في استطاعتهم اللجوء إلى يهود الشتات من أجل الحصول عليها)، كما كان إنشاء نواة سلك دبلوماسي جزءاً عضوياً من التحضيرات العامة نفسها الهادفة إلى إنشاء دولة في فلسطين بالقوة التفكير في طرد جميع السكان الأصليين بالقوة بات الطريق، كما برهنت التطورات اللاحقة، قصيراً جداً كان هناك حاجة إلى ما هو أكثر من مجرد الاستمتاع بمهاجمة قرية فلسطينية حاجة إلى تخطيط منهجي.
وأتى الاقتراح من مؤرخ شاب من الجامعة العبرية يدعى "بن – تسيون لوريا"، الذي كان وقتئذ موظفاً في الدائرة التعليمية التابعة للوكالة اليهودية وقد أشار لوريا إلى أنه سيكون من المفيد جداً إعداد سجل مفصل للقرى العربية، واقترح أن يقوم الصندوق القومي اليهودي بإعداده، "هذا سيساعد جداً في تحرير البلد".
لقد كان الصندوق القومي اليهودي، الذي أنشئ في سنة 1901، الأداة الصهيونية الرئيسية لاستعمار فلسطين، وكان بمثابة الوكالة التي استخدمتها الحركة الصهيونية لشراء الأراضي الفلسطينية التي جرى توطين المهاجرين اليهود فيها، ومنذ تدشينه في المؤتمر الصهيوني الخامس، صار رأس الحربة في صهينة فلسطين خلال أعوام الانتداب ….
ولذلك بلغت حماسة فايتس الذروة عندما بلغه خبر ملفات القرى، واقترح على الفور تحويلها إلى "مشروع قومي وأصبح كل من يمكن أن تكون له يد في المشروع متحمساً بشدة للفكرة، يتسحاق بن – تسفي، العضو البارز في القيادة الصهيونية، والمؤرخ الذي أصبح لاحقاً ثاني رئيس لدولة إسرائيل، شرح في رسالة إلى موشيه شرتوك (شاريت)، رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية (لاحقاً واحداً من رؤساء الحكومة)، أنه بالإضافة إلى تسجيل مخططات القرى من الناحية الطبوغرافية، يجب أن يتضمن المشروع أيضاً كشف "الأصول العبرية" لكل قرية.
كانت المحصلة النهائية لجهود الطوبغرافيين والمستشرقين ملفات مفصلة لجميع قرى فلسطين، عمل الخبراء الصهيونيون على استكمالها بالتدريج، بحيث أصبح "الأرشيف" مكتملاً تقريباً في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، وقد تضمن ملف كل قرية تفصيلات دقيقة عن موقعها الطوبغرافي، وطرق الوصول إليها، ونوعية أراضيها، وينابيع المياه، ومصادر الدخل الرئيسية وتركيباتها الاجتماعية – الاقتصادية، والانتماءات الدينية للسكان، وأسماء المخاتير، والعلاقات بالقرى الأخرى، وأعمار الرجال (من سن 16 إلى سن 50)، ومعلومات كثيرة أخرى، ومن فئات المعلومات المهمة كان هناك مؤشر يحدد درجة "العداء" (للمشروع الصهيوني)، بناء على مدى مشاركة القرية في ثورة 1936، وكان هناك قائمة بأسماء كل شخص شارك في الثورة والعائلات التي فقدت أشخاصاً في القتال ضد البريطانيين، وأعطي الأشخاص الذين زعم أنهم قتلوا يهودا اهتماماً خاصاً، وكما سنرى لاحقاً، فان هذه الأجزاء الأخيرة من المعلومات نجم عنها في سنة 1948 أشد الأعمال وحشية في القرى، وقادت إلى إعدامات جماعية وتعذيب للضحايا وفي الواقع كانت المشكلة الملحوظة في كثير من ملفات القرى هي كيفية إيجاد نظام تعاون استخباراتي مع أناس يعتبرهم باسترناك ورفاقه بدائيين وبرابرة، "أناس يحبون شرب القهوة، ويأكلون الأرز بأيديهم، الأمر الذي جعل من الصعب جدا استخدامهم مخبرين"، ويتذكر باسترناك انه في سنة 1943 كان هناك إحساس متنام بأنه أصبح لديهم أخيرا شبكة من المخبرين تستحق التسمية.
ومع اقتراب فترة الانتداب من نهايتها، أصبح جمع المعلومات موجهاً بصراحة نحو المعطيات ذات الطابع العسكري، مثل: عدد الحراس (معظم القرى لم يكن لديه أي حراس) وكمية الأسلحة الموجودة ونوعيتها  وكان ليشنسكي في أربعينات القرن الماضي مشغولاً بتنسيق الحملات ضد المزارعين الأجراء ووجه كل طاقته نحو تخويف هؤلاء الناس ومن ثم إجلائهم هم وعائلاتهم عن الأراضي التي كانوا وأسلافهم يزرعونها منذ قرون.
وروى يغئيل يادين أن هذه المعرفة الدقيقة والتفصيلية بما كان يجري في كل قرية فلسطينية على حدة هي التي مكنت القيادة العسكرية الصهيونية، في تشرين الثاني / نوفمبر 1947، من الاستنتاج "انه لم يكن لدى الفلسطينيين العرب من ينظمهم التنظيم الصحيح".



الخطة دالت، 10 آذار / مارس 1948.
أساليب التطهير
تسلسل الأحداث الرئيسية بين شباط / فبراير 1947 وأيار / مايو 1948.
في شباط / فبراير 1947، اتخذت الحكومة البريطانية قراراً بالانسحاب من فلسطين الانتدابية وتركها للأمم المتحدة تم تبني قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، وبدأ التطهير العرقي في فلسطين أوائل كانون الأول / ديسمبر 1947.
في 9 كانون الثاني / يناير 1948، دخلت وحدات من جيش المتطوعين العرب فلسطين واشتبكت مع القوات اليهودية في معارك صغيرة بشان الطرق والمستعمرات اليهودية المنعزلة، ومع انتصار القوات اليهودية بسهولة في هذه المناوشات، غيرت القيادة اليهودية تكتيكاتها، من أعمال انتقامية إلى عمليات تطهير وتبع ذلك عمليات طرد بالقوة في أواسط شباط / فبراير 1948 عندما نجحت القوات اليهودية إلى إخلاء خمس قرى من سكانها في يوم واحد
وفي 10 آذار / مارس 1948، ثم تبني خطة دالت، وكان الهدف الأول المراكز الحضرية في فلسطين، التي اكتمل احتلالها جميعاً مع حلول نهاية نيسان / ابريل، وقد جرى في هذه المرحلة اقتلاع نحو 250.000 فلسطيني في أماكن سكنهم، ورافق ذلك مجازر عديدة، أبرزها مجزرة دير ياسين.
ونتيجة هذه التطورات اتخذت جامعة الدول العربية، في اليوم الأخير من نيسان / ابريل، قراراً بالتدخل عسكرياً، لكن ليس قبل انتهاء الانتداب البريطاني.
غادر البريطانيون البلد في 15 أيار/ مايو 1948، وأعلنت الوكالة اليهودية على الفور قيام دولة يهودية في فلسطين، وفي اليوم نفسه، دخلت القوات المسلحة النظامية العربية فلسطين.
قبل آذار/ مارس 1948، كان من الممكن تصوير النشاطات التي قامت بها القيادة الصهيونية لتحقيق رؤيتها على أنها ردات فعل تأديبية على أعمال عدائية فلسطينية، أو عربية، لكن بعد آذار / مارس لم يعد الأمر كذلك، فقد أعلنت القيادة الصهيونية صراحة – قبل شهرين من نهاية الانتداب – أنها ستسعى للاستيلاء على البلد وطرد السكان الفلسطينيين بالقوة: الخطة دالت.
وكانت الوكالة اليهودية أواخر سنة 1946 قد شرعت في مفاوضات مكثفة مع ملك الأردن، عبد الله وتوصل بعد الحرب العالمية الثانية إلى اتفاق من حيث المبدأ مع الوكالة اليهودية بشأن كيفية اقتسام فلسطين بينهما بعد انتهاء الانتداب وعد الملك عبد الله ألا ينضم أية عمليات عسكرية ضد الدولة اليهودية إن هذا الاتفاق الضمني مع الأردن شكل، من نواح عديدة، الخطوة الثانية في اتجاه ضمان أن تتقدم عملية التطهير العرقي من دون عوائق.
خلال المراحل المبكرة للتطهير العرقي (حتى أيار / مايو 1948)، كان بضعة آلاف من المقاتلين الفلسطينيين غير النظاميين يواجهون عشرات الآلاف من الجنود اليهود المدربين جيداً، وفي المراحل التالية، لم تواجه قوة يهودية، أية صعوبة في استكمال انجاز المهمة.
على هامش القوة العسكرية اليهودية الرئيسية نشطت مجموعتان متطرفتان الأرغون وعصابة شتيرن (ليحي)، ومع الهاغاناه، شكلت المنظمات الثلاث جيشاً موحداً خلال أيام النكبة.
في عمليات التطهير العرقي اللاحقة، كانت قوات الهاغاناه والبالماخ، والأرغون تحتل القرى، وتسلمها بعد فترة وجيزة لقوات أقل قدرة قتالية وكان لدى الهاغاناه وحدة استخبارات أيضاً أسست في سنة 1933 كانت مشرفة على إعداد ملفات القرى وإنشاء شبكات التجسس والمتعاونين داخل المناطق الريفية، وساعدت في تحديد هوية آلاف من الفلسطينيين أعدموا لاحقاً فور اعتقالهم لقد شكلت هذه القوى المسلحة مجتمعة قوة حربية بما فيه الكفاية لتعزز ثقة – بن غوريون بقدرة المجتمع اليهودي على أن يرث الدولة الانتدابية ويستولى على معظم الأراضي الفلسطينية والأملاك الفلسطينية والأملاك والثروات الموجودة فيها.
رسم قادة المجتمع اليهودي، في العلن، سيناريوهات مرعبة، وحذروا جمهورهم من "هولوكوست ثانية" وشيكة لكن في لقائاتهم الخاصة لم يستخدموا قط مثل هذا الخطاب، إذ كانوا يعرفون جيداً أن لغة الحرب الطنانة العربية لم تكن مقرونة بأية استعدادات جدية على أرض الواقع، وكما رأينا، كانوا على علم تام بافتقار الجيوش العربية إلى العتاد العسكري الجيد، والى الخبرة القتالية، والى التدريب، وبالتالي كانت قدرتها على شن أي نوع من الحروب محدودة، وكان القادة الصهيونيون واثقين بتفوقهم عسكرياً، وبقدرتهم على تنفيذ معظم خططهم الطموحة، وكانوا مصيبين في تقديراتهم.
 وعلاوة على ذلك، لم يحدث التدخل العربي إلا في 15 أيار / مايو 1948، أي بعد خمسة أشهر ونصف شهر من تبني الأمم المتحدة قرار التقسيم، وخلال تلك المدة الطويلة بقي معظم الفلسطينيين – باستثناء جيوب قليلة كانت تحاول فيها مجموعات شبه عسكرية تنظيم نوع من المقاومة – من دون قدرة على الدفاع في وجه عمليات عسكرية يهودية كان يجري تنفيذها.
في خطاب أمام كبار أعضاء حزب مباي (حزب عمال ارض إسرائيل) ، لخص بن جوريون بصورة أوضح كيف يجب التعامل مع حقائق لا يمكن قبولها، مثل قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة هناك 40% من غير اليهود في المناطق المخصصة للدولة اليهودية، إن هذه التركيبة ليست أساساً متيناً لدولة يهودية، ويجب أن نواجه هذا الواقع الجديد بكل قسوته ووضوحه، فقط دولة 80% من سكانها على الأقل يهود يمكن إن تكون قابلة للحياة ومستقرة.
بعد أن أصبحت المساحة محددة والتفوق العسكري مؤكداً، كانت الخطوة الرابعة للقيادة الصهيونية، في اتجاه استكمال تطهير فلسطين، توفير الوسائل الفعلية الملموسة التي من شانها أن تمكنهم من إزاحة هذه الكتلة الكبيرة من السكان، ففي الأراضي التي ستتكون منها مساحة دولتهم اليهودية الكبرى العتيدة، كان يعيش في أوائل كانون الأول / ديسمبر 1947 مليون فلسطيني من مجموع السكان الفلسطينيين البالغ عددهم 1.3 مليون نسمة، بينما كان المجتمع اليهودي أقلية مكونة من 600.000 نسمة.
أعلنت الهيئة العربية العليا إضرابا لمدة ثلاثة أيام ونظمت تظاهرات جماهيرية احتجاجاً على قرار الأمم المتحدة بتبني قرار التقسيم، ولم يكن هناك أي جديد في هذا النوع من ردات الفعل، لقد كانت ردات الفعل الفلسطينية المألوفة تجاه سياسات اعتبروها ضارة أو خطيرة، قصيرة الأمد وغير فعالة أما الناس فقد استمرت حياتهم، إلى حد ما، من دون تغيير: زرعوا أراضيهم، أو مارسوا تجارتهم حيثما كانوا، واستسلموا إلى الوضع الجديد إلى حين حدوث تغيير ما مرة أخرى، وبالتالي انتظر القرويون وسكان المدن سواء بسواء، بصبر ليروا ما سيعني لهم أن يكونوا جزءاً من دولة يهودية، أو أي نظام قد يحل محل الحكم البريطاني، ولم يكن لدى معظمهم أي فكرة عما ينتظرهم، أو أن ما كان وشيك الحدوث،.
لقد تم وضع النموذج ومن هذا المنظور فان كانون الأول/ ديسمبر 1947 ربما كان الفصل الأكثر مراوغة في تاريخ التطهير العرقي في فلسطين، كانت ردة الفعل المعتدلة في العواصم العربية المحيطة بفلسطين محط ترحيب لدى الهيئة الاستشارية لبن – غوريون، لكن ردة الفعل الفلسطينية اللا مبالية، والمتقاعسة تقريباً، أزعجتهم إن العودة السريعة إلى الحياة الطبيعية ورغبة الفلسطينيين في الابتعاد عن التورط في حرب أهلية أربكتا القادة الصهيونيين الذين كانوا مصممين على خفض عدد الفلسطينيين داخل دولتهم اليهودية العتيدة بصورة جذرية، إن لم يكن التخلص منهم كلياً كانوا بحاجة إلى ذريعة  لـ "حسن حظهم" وسع جيش المتطوعين العرب في وقت ما نشاطاته ضد القوافل والمستعمرات اليهودية، وبذلك سهل على الهيئة الاستشارية وضع سياسة الاحتلال والطرد في إطار شكل مبرر من أشكال الرد "الانتقامي".
الفارق الواضح في ردة فعل المجتمع في كل من الطرفين حيال الواقع السياسي الجديد الآخذ في التكون حولهم، المزارعون اليهود في الكيبوتسات والمستعمرات التعاونية أو القائمة على أساس الملكية الخاصة، حولوا أماكن إقامتهم إلى مواقع عسكرية مستعدة للدفاع والهجوم، فعززوا التحصينات، وأصلحوا السياجات، وزرعوا الألغام…الخ، وتم تزويد كل فرد ببندقية ودمجه في القوة العسكرية اليهودية، أما القرى الفلسطينية وهذا ما أدهش فقد "واصلت حياتها كالمعتاد كما أن الجنود الأردنيين بدوا كأنهم يعتبرون الوضع طبيعياً، ولم ينشغلوا بأي استعدادات خاصة.
النخبة الحضرية الفلسطينية أخذت تترك بيوتها وتنتقل إلى مساكنها الشتوية في سورية ولبنان ومصر، وكان ذلك ردة فعل نموذجية من جانب النخب الحضرية في أوقات الأزمات – الذهاب إلى مكان آمن ريثما يهدأ الوضع[].
إن جيش الإنقاذ فشل في التعاون مع المجموعات شبه العسكرية التي كان يقودها عبد القادر الحسيني في القدس، وحسن سلامة في يافا وتسبب فقدان التعاون هذا باتخاذ جيش الإنقاذ، في كانون الثاني / يناير 1948، قراراً بعدم العمل في المدن، ومحاولة مهاجمة المستعمرات اليهودية المنعزلة بدلاً من ذلك، وكان قائد جيش الإنقاذ، الضابط السوري فوزي القاوقجي، هو من قاد مجموعة المتطوعين، المشكلة أساساً من عراقيين، إلى فلسطين في ثورة 1936، ومنذ ذلك الوقت ظل على خلاف مع عائلة الحسيني، وقدم هؤلاء إلى حكومتي سورية والعراق،.
بعد أيام من انجاز طباعة الخطة دالت، وزعت على قادة ألوية الهاغاناه، ومع كل قائمة تسلمها القائد كان هناك وصف مفصل للقرى الواقعة في مسرح عملياته، والمصير الذي يجب أن تؤول إليه: احتلال وتدمير وطرد
مخطط التطهير العرقي - عملية نحشون - أول عملية في خطة دالت:
طلب من كل لواء مفرز للعملية الاستعداد للانتقال إلى "متساف دالت" ، أي الحالة "د" التي تعني التأهب لتنفيذ أوامر الخطة "د "ثم تلاها: "سيتم تحديد القرى التي يجب احتلالها وتطهيرها أو تدميرها.
تلقت وحدات البالماخ أوامرها بالقيام بعملية نحشون في اليوم الأول بالذات من نيسان / ابريل 1948.
كانت الأوامر واضحة، الهدف الرئيسي للعملية هو تدمير القوى العربية وطرد القرويين كي يصبحوا عبئاً اقتصادياً على القوات العربية العامة واقترنت "عملية نحشون" بتجديدات في نواح أخرى أيضاً، فقد كانت أول عملية حاولت فيها جميع المنظمات العسكرية اليهودية المتعددة أن تعمل كجيش موحد، واضعة بذلك الأساس للجيش الإسرائيلي المترقب وفي ذلك اليوم نفسه سقطت أول قرية من القرى الفلسطينية العديدة الموجودة حول القدس بأيدي اليهود. (القسطل).
وفي 9 نيسان / ابريل، قتل عبد القادر الحسيني في المعركة بينما كان يدافع عن القرية، وقد أدى موته إلى تدهور معنويات جنوده إلى حد أن القرى الأخرى في القدس الكبرى سقطت كلها بسرعة بأيدي القوات اليهودية، حوصرت واحدة تلو الأخرى، ثم هوجمت واحتلت، وطرد سكانها، وهدمت بيوتهم ومبانيهم، وفي عدد منها، رافق الطرد مجازر كأن أسوؤها صيتاً المجزرة التي ارتكبتها القوات اليهودية، يوم سقوط القسطل نفسه في دير ياسين.
دير ياسين : في 9 نيسان/ ابريل 1948، احتلت القوات اليهودية قرية دير ياسين الواقعة على هضبة إلى الغرب من القدس، عندما اقتحم الجنود اليهود القرية، رشقوا البيوت بنيران المدافع الرشاشة، متسببين بقتل كثير من سكانها، ومن ثم جمعوا بقية القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد، وانتهكوا حرمة أجسادهم، في حين اغتصب عدد من النساء ثم قتلن.
قريتان في المنطقة نفسهما أعفيتا من التدمير: أبو غوش والنبي صموئيل، وكان السبب في ذلك أن مختاريهما أقاما علاقات ودية مع القادة المحليين لعصابة شتيرن
تدمير المدن الفلسطينية:
إن ثقة القيادة اليهودية في أوائل نيسان / ابريل بقدرتها لا على الاستيلاء على المناطق التي منحتها الأمم المتحدة للدولة اليهودية فحسب، بل أيضا على تطهيرها، يمكن سبْرِها من الطريقة التي وجهت فيها الهاغاناه، مباشرة بعد عملية نحشون، اهتماماً إلى المراكز الحضرية الرئيسية في فلسطين، ، بينما كان موظفو الأمم المتحدة والموظفون البريطانيون يراقبون ما يجري بلا مبالاة ومن دون أن يحركوا ساكناً.
بعد أن سقطت حيفا لم يبق في فلسطين سوى مدن قليلة حرة، بينها عكا والناصرة وصفد لم تتخط حملة تدمير المدن الفلسطينية القدس، التي تحولت بسرعة من "المدينة الخالدة"، كما يصفها كتاب لسليم تماري صدر مؤخراً، إلى "مدينة أشباح قصفت القوات اليهودية الأحياء العربية الغربية ثم هاجمتها واحتلتها في نيسان / ابريل 1948،
عندما جرى تطهير هذه المناطق واحتلالها كانت القوات البريطانية لا تزال موجودة في فلسطين، لكنها ظلت بعيدة ولم تتدخل إنما في منطقة واحدة فقط، قرر قائد بريطاني التدخل، وكان ذلك في الشيخ جراح، وهو أول حي فلسطيني بني خارج أسوار البلدة القديمة، وكانت تقيم به العائلات العريقة الرئيسية، مثل آل الحسيني والنشاشيبي والخالدي.
واصلت حملة تدمير المدن الفلسطينية اندفاعها، فاحتلت عكا على الساحل، وبيسان في الشرق، في 6 أيار/ مايو 1948، في بداية أيار/ مايو برهنت عكا مرة أخرى أن نابليون لم يكن وحده من اكتشف أن من الصعب إخضاعها، وعلى الرغم من الازدحام الشديد الناجم عن تدفق اللاجئين الهائل من مدينة حيفا المجاورة إليها، والقصف اليومي العنيف، فقد فشلت القوات اليهودية في قهر المدينة الصليبية ويبدو أنه جرى خلال الحصار تلويث المياه بجراثيم التيفوئيد، وقد رفع مبعوثو الصليب الأحمر الدولي المحليون إلى مركزهم الرئيسي تقارير بذلك، ولم يتركوا أدنى شك فيمن يشتبهون: الهاغاناه، وتصف تقارير الصليب الأحمر تفشياً مفاجئاً لمرض التيفوئيد مع تدهور المعنويات جراء وباء التيفوئيد والقصف العنيف، استجاب الناس للدعوة المنطلقة من مكبرات الصوت التي كانت تصرخ بهم: "استسلموا أو انتحروا سنبيدكم حتى آخر رجل فيكم"،
جرت محاولة مشابهة لتسميم مصادر مياه غزة في 27 أيار / مايو، لكنها أحبطت، وقد ألقى المصريون القبض على يهوديين، دافيد حورن ودافيد مزراحي، بينما كانا يحاولان تلويث آبار المياه في غزة بجراثيم التيفوئيد والديزنطاريا، وأعدم المصريون اليهوديين لاحقاً، ولم تصدر عن الإسرائيليين أية احتجاجات رسمية في الوقت الذي احتلت عكا تقريباً، احتل لواء غولاني مدينة بيسان بعملية جدعون كانت يافا آخر مدينة يجري احتلالها،.
إجمالا كان ثمة في يافا قوة دفاعية أكبر مما كان لدى الفلسطينيين في أي موقع آخر: 1500 متطوع في مقابل 5000 جندي يهودي، وقد صمدت المدينة ثلاثة أسابيع في وجه الحصار والهجوم الذي بدأ في أواسط نيسان / ابريل وانتهى في أواسط أيار/ مايو وعندما سقطت طرد جميع سكانها البالغ عددهم 50.000 نسمة وبسقوط يافا، تم للقوات اليهودية إخلاء جميع مدن وبلدات فلسطين الرئيسية وطرد سكانها.
وكانت العمليات التي نفذت في الريف في نيسان/ ابريل متصلة بشكل أوثق بتدمير المدن الفلسطينية، فالقرى الواقعة بالقرب من المراكز الحضرية كانت تحتل ويطرد سكانها، وأحياناً تتعرض لمجازر، في حملة إرهابية مصممة لتمهيد الأرض لاحتلال ناجح للمدن وكان المراقبون التابعون للأمم المتحدة شهوداً على عملية الطرد وكان ممثلو وسائط الإعلام الغربية، بمن في ذلك مراسل الـ "نيويورك تايمز"، ما زالوا يرسلون قصصاً عن قرى منفردة، وكانت واحدة من النتائج المأساوية لهذا الانتقال إلى معسكر العدو أن القوات الدرزية أصبحت الأداة الرئيسية بأيدي اليهود لتنفيذ تطهير الجليل عرقياً.
ردات فعل العرب:
عندما احتلت القوات اليهودية أول القرى العربية في كانون الأول/ ديسمبر 1947 ودمرتها، بدا الأمر كما لو أن الجليل هو المنطقة الوحيدة التي تتوفر فيها الفرصة لإيقاف الهجمات اليهودية، بمساعدة فوزي القاوقجي فبعد أن هاجم القاوقجي عدداً من المستعمرات المعزولة والقوافل التي تحركت لنجدتها، بدأ يسعى في كانون الثاني / يناير إلى هدنة، وواصل مساعيه طوال شباط/ فبراير وآذار/ مارس 1948، فقد أدرك أن اليهود يتمتعون بالتفوق في جميع النواحي العسكرية، وحاول التفاوض مباشرة مع الهيئة الاستشارية، التي كان يعرف بعض أعضائها في فترة الثلاثينات، وفي نهاية آذار/ مارس، اجتمع بيهوشواع بالمون، بمباركة، كما يبدو مع ملك الأردن عبد الله، وعرض على بالمون معاهدة عدم اعتداء تبقى القوات اليهودية بموجبها داخل المناطق المخصصة للدولة اليهودية وتسمح في النهاية بالتفاوض في شأن فلسطين مكونة من كانتونات،  مقترحات القاوقجي قوبلت بالرفض، ومع ذلك لم يشن أي هجوم ذي قيمة، ولم يكن في قدرته أن يفعل ذلك، إلى أن اندفعت القوات اليهودية إلى داخل المناطق التي خصصتها الأمم المتحدة للدولة العربية ورافق ظهور القاوقجي وصول متطوعي الإخوان المسلمين من مصر إلى الساحل الجنوبي، وكانوا مفعمين بالحماسة، لكنهم غير فعالين على الإطلاق كجنود وقوات، كما ثبت بسرعة عندما احتلت القرى التي كان من المفروض أن يدافعوا عنها، وأخليت ودمرت بتتابع سريع.
في كانون الثاني يناير 1948، بلغ الحديث الطنان عن الحرب في العالم العربي ذروة جديدة، لكن الحكومات العربية بصورة عامة لم تذهب إلى ما هو أبعد من الكلام عن الحاجة إلى إنقاذ فلسطين وقد سيطر الأردنيون فعلاً في نهاية المطاف على المنطقة التي أصبحت معروفة باسم الضفة الغربية، وجرى ضم معظمها من دون أن تطلق رصاصة واحدة تأثر القرار العربي بشان حجم التدخل والمساعدة تأثراً مباشراً بالتطورات على الأرض، ، غير أنهم ماطلوا، بقدر ما استطاعوا، وأجلوا التدخل العسكري المحتم، وعندما تدخلوا كانوا سعداء بإنهائه بأسرع وقت ممكن: كانوا يعرفون تمام المعرفة لا أن الفلسطينيين هزموا فحسب، بل أيضاً انه لا توجد فرصة أمام جيوشهم في مواجهة مع القوات اليهودية المتفوقة، وفي الواقع أرسلوا قواتهم إلى حرب كانوا يعرفون أن لا فرصة أمامهم لكسبها وكي لا تسحب القادة دوامة يمكن أن تقوض مكانتهم المهتزة أصلاً في مجتمعاتهم، أحالوا أمر اتخاذ القرار على مؤسستهم الإقليمية، مجلس جامعة الدول العربية وكان هذا هيئته غير فعالة لأنه كان في الإمكان رفض قراراته، أو إساءة تفسيرها، أو – إذا قبلت – تنفيذها جزئياً، وقد تباطأت هذه الهيئة في مناقشتها حتى بعد إن أصبحت حقيقة ما يجري في أرياف فلسطين ومدنها واضحة ومؤلمة إلى حد لم يعد من الممكن تجاهلها، وفي نهاية نيسان/ إبريل 1948 فقط قررت إرسال جيوش إلى فلسطين، وذلك بعد إن كان تم فعلاً طرد ربع مليون فلسطيني، وتدمير مائتي قرية، وإخلاء عشرات المدن.
قبل أن يتخذ القرار النهائي بالدخول، في 30 نيسان/ أبريل، كانت ردات فعل الدول العربية متباينة، فقد طلب مجلس الجامعة من الجميع إرسال أسلحة ومتطوعين، لكن البعض لم يستجب للطلب، المملكة العربية السعودية ومصر تعهدتا بمساعدة مالية قليلة، ووعد لبنان بإرسال عدد محدود من البنادق، ويبدو أن سورية كانت الدولة الوحيدة الراغبة في القيام باستعدادات عسكرية جدية، وأقنعت العراق بتدريب متطوعين وإرسالهم إلى فلسطين لم يكن هناك نقص في المتطوعين، كثيرون في الدول العربية المحيطة بفلسطين تظاهروا ضد تقاعس حكوماتهم عن العمل، وآلاف من الشبان كانوا راغبين في التضحية بحياتهم من أجل الفلسطينيين.
الشخص الغريب في هذه التركيبة كان ملك الأردن عبد الله، الذي استخدم الوضع الجديد لتكثيف مفاوضاته مع الوكالة اليهودية من أجل اتفاق مشترك بشأن فلسطين ما بعد الانتداب، وتكشف مذكرات فوزي القاوقجي عن الإحباط المتنامي لدى ضباط جيش الإنقاذ من عدم استعداد وحدات الفيلق العربي، المرابطة في فلسطين للتعاون مع قواته في أثناء العمليات اليهودية ما بين كانون الثاني / يناير وأيار/ مايو 1948، عندما طرد ما يقارب 250.000 فلسطيني من بيوتهم، لم يحرك الفيلق العربي ساكناً..
كان الفيلق العربي، أي الجيش الأردني، أفضل الجيوش تدريباً في العالم العربي، وكان يعادل القوات اليهودية، بل حتى كان يتفوق عليها في بعض المناطق، لكن نشاطه اقتصر، بناء على أوامر من الملك عبد الله ورئيس هيئة أركانه البريطاني، جون غلوب باشا، على المناطق التي اعتبرها الأردنيون لهم: القدس الشرقية، والمنطقة المعروفة حالياً باسم الضفة الغربية.
فيما يتعلق بالقيادة الفلسطينية، فإن ما بقي منها كان مجرد شظايا وفي حالة فوضى كاملة، بعض أعضائها رحل بسرعة على أمل أن يكون رحيله مؤقتاً، لكن هذا الأمل خاب، عدد قليل جداً منهم رغب في البقاء ومواجهة العدوان اليهودي في كانون الأول/ ديسمبر 1947 وبداية عمليات التطهير في كانون الثاني/ يناير 1948، وبقي فعلاً، وظل رسمياً في عضوية اللجان القومية، وكان من المفروض ان تنسق بين نشاطات هؤلاء الأعضاء وتشرف عليهم الهيئة العربية العليا، الحكومة غير الرسمية للفلسطينيين منذ الثلاثينات، لكن نصف أعضائها كان رحل والنصف الباقي وجد من الصعب عليه القيام بالعبء مع انه كان في استطاعتهم بكل سهولة اختيار الرحيل، ونذكرهم بالاسم: اميل الغوري، أحمد حلمي، رفيق التميمي، معين الماضي، حسين الخالدي، وكان كل منهم على اتصال بعدة لجان قومية محلية، وبالحاج أمين الحسيني، رئيس الهيئة العربية العليا، الذي كان يتابع الأحداث مع زميليه المقربين منه، الشيخ حسن أبو السعود واسحق درويش، من القاهرة، حيث كان يقيم اما قريبه جمال الحسيني، القائم بأعمال رئيس الهيئة العربية العليا في أثناء غيابه، فكان سافر الى الولايات المتحدة لمحاولة اطلاق حملة دبلوماسية متأخرة ضد قرار الأمم المتحدة وهكذا، فان المجتمع لفلسطيني كان من جميع النواحي شعباً بلا قيادة.
في هذا السياق لا بد من العودة الى ذكر عبد القادر الحسيني مرة أخرى، لأنه حاول ان ينظم وحدة شبه عسكرية من القرويين ليحموا انفسهم، وقد صمد جيشه، "الجهاد المقدس"، الذي كان اسمه المهيب أبعد ما يكون عن واقع المجموعات غير المستقرة التي كان مكوناً منها، حتى 9 نيسان/ أبريل، عندما هزم وقتل قائده على يد قوات الهاغاناه المتفوقة عدداً وعدة وخبرة عسكرية وبذل جهد مشابه في منطقة يافا الكبرى من جانب حسن سلامة، ومحمد نمر الهواري (الذي استسلم لاحقاً لليهود وأصبح اول قاض فلسطيني في اسرائيل في الخمسينات)، وقد حاول الاثنان تحويل حركتيهما الكشفيتين الى وحدتين عسكريتين، لكنهما أيضاً هزمتا خلال أسابيع قليلة اذا، قبل نهاية الانتداب البريطاني لم يشكل المتطوعون العرب القادمون من الخارج، ولا القوات شبه العسكرية في الداخل، خطراً جدياً على المجتمع اليهودي من شانه ان يؤدي الى خسارته المعركة او الاضطرار الى الاستسلام غير ان الرأي العام الاسرائيلي، والامريكي بصورة خاصة، نجحا في تخليد أسطورة أن الدولة اليهودية المرتقبة كانت عرضة لخطر التدمير أو لـ "هولوكوست أخرى" وباستغلال هذه الأسطورة، ستحصل اسرائيل في وقت لاحق على دعم هائل للدولة من الجوالي اليهودية في مختلف انحاء العالم، بينما حولت العرب ككل، والفلسطينيين بصورة خاصة، الى شياطين في نظر الرأي العام الأمريكي، اما الواقع على الأرض فكان طبعاً، نقيض ذلك تماماً: الفلسطينيون كانوا يتعرضون لطرد جماعي هائل
ولقد أدى التطهير العرقي في فلسطين، الذي حرض عليه بن – غوريون في السنة التالية، والذي يمكن اعتباره تجسيداً لـ "مقاربته الجديدة" الى إنقاص عدد الفلسطينيين الى ما دون 20% من إجمالي عدد السكان في الدولة اليهودية الجديدة وفي كانون الأول / ديسمبر 2003، استحضر بنيامين نتنياهو إحصاءات بن – غوريون "المزعجة" قائلاً: "إذا صار العرب يشكلون 40% من السكان، فان هذا سيكون نهاية الدولة اليهودية"، وأضاف: "لكن نسبة 20% هي أيضاً مشكلة، وإذا صارت العلاقة بهؤلاء الـ 20% إشكالية، فان للدولة الحق في اللجوء الى إجراءات متطرفة" ولم يفصل أكثر في القول حالياً تحرر معظم الصحافيين والأكاديميين والسياسيين في إسرائيل، المنتمين إلى التيار المركزي، من أية كوابح سابقة عندما يتعلق الامر بالتحدث عن "المشكلة الديموغرافية"، ففي الداخل لا أحد يشعر بان عليه ان يشرح ما هو جوهر المشكلة، وعلى من يقع تأثيرها، وفي الخارج، منذ يوم نجحت إسرائيل بعد 9/11 في جعل الغرب يفكر في "العرب" في إسرائيل والفلسطينيين في المناطق المحتلة كـ "مسلمين"، وجدت من السهل عليها الحصول على تأييد لسياساتها الديموغرافية هناك أيضا، وبالتأكيد حيث الأمر شديد الأهمية: في الكابيتول هيل (مقر الكونغرس الأمريكي) ، وقد نشرت "معاريف"، الصحيفة الأكثر شعبية في إسرائيل، في 2 شباط/ فبراير 2003، مقالة تعكس بصورة نموذجية المزاج الجديد، تحت العنوان الرئيسي التالي: "ربع الأطفال في إسرائيل مسلمون" ووصفت المقالة هذه الحقيقة بأنها "القنبلة الموقوتة" التالية، فالزيادة السكانية الطبيعية لم تعد فلسطينية، وإنما أصبحت "مسلمة" – 2.4 % سنوياً – ولم تعد توصف بأنها مشكلة، وانما "خطر".
في سياق التوجه لانتخابات الكنيست في سنة 2006 ناقش العلماء المختصون مسألة "الميزان الديموغرافي" مستخدمين لغة شبيهة باللغة التي تستخدمها أغلبية السكان في أوروبا والولايات المتحدة في المناقشات بشأن الهجرة وكيفية استيعاب المهاجرين، او إعاقة استيعابهم، لكن ما يحدث في فلسطين هو ان مجتمع المهاجرين، هو الذي يقرر مستقبل السكان الأصليين، لا العكس لكن على الرغم من المثابرة الصهيونية فقد نجت جماعة كبيرة  الحجم من الفلسطينيين من التطهير العرقي، واليوم، أصبح أطفالها طلاباً في الجامعات حيث يتابعون مقررات تعليمية يلقي في سياقها أساتذة العلوم السياسية او الجغرافيا محاضرات عن تفاقم مشكلة "الميزان الديموغرافي" في إسرائيل، أما طلاب الحقوق – المحظوظون الذين قبلوا لدراسة الموضوع بموجب كوتا غير رسمية – في الجامعة العبرية في القدس، فقد يصادفون هناك الأساتذة روث غبيسون، وهي رئيسة سابقة لجمعية الحقوق المدنية ومرشحة لعضوية محكمة العدل العليا، والتي بدأت مؤخراً آراء متشددة تجاه الموضوع تعتقد انها تعكس اجماعاً عريضاً، اذ صرحت ان "لإسرائيل الحق في ضبط النمو الطبيعي الفلسطيني".
وبعيداً عن الجامعات، لا يستطيع الفلسطينيون الا ان يدركوا انه ينظر اليهم كمشكلة، فمن اليسار الى أقصى اليمين الصهيوني، يسمعون يومياً ان المجتمع اليهودي يتوق الى التخلص منهم، ويساورهم القلق، وبحق، كلما سمعوا انهم وعائلاتهم أصبحوا "خطراً"، لانهم ما داموا مشكلة فانهم قد يشعرون بانهم محميون بالادعاء الذي تشيعه إسرائيل في العالم الخارجي انها ديمقراطية ليبرالية، لكنهم يعرفون انه ما ان تعلن الدولة رسمياً انهم يشكلون خطراً حتى يتم إخضاعهم لسياسات الطوارئ الموروثة من فترة الانتداب البريطاني، والتي تحافظ عليها لاستخدامها عند اللزوم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الاسم : إسلام خضر ديب مبارك .
المادة: فلسطين الارض والانسان
موضوع البحث: التطهير العرقي في فلسطين
إشراف:  د.موسى عجوه.
2010 .م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق